لماذا الاهتمام بالقراءات القرآنية؟ القراءات القرآنية هي الوجوه المختلفة التي سمح النبيّ صلى الله عليه وسلم بقراءة النص القرآني بها قصدًا للتيسير ، والتي جاءت وفقًا للهجة من اللهجات العربية القديمة . وقد تكفل الزركشي (البرهان 1 / 318) . بالتفرقة بين القرآن والقراءات بقوله : "القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان . فالقرآن هو الوحي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم للبيان والإعجاز ، والقراءات هي اختلاف ألفاظ الوحي المذكـور في كِتبة الحروف ، أو كيفيتها ؛ من تخفيف وتثقيل وغيرهما . . " .
كما تكفل ابن الجزري ببيان الحكمة في تعدد القراءات في النص المصحفي (النشر 1 / 22) . فقال : "فأما سبب وروده على سبعة أحرف فللتخفيف على هذه الأمة وإرادة اليسر بها ، والتهوين عليها . . . وتوسعة ، ورحمة ، وخصوصية لفضلها ، وإجابة لقصد نبيها . . . مسلم صلاة المسافرين وقصرها (821) ، النسائي الافتتاح (939) ، أبو داود الصلاة (1477) ، أحمد (5/127). حيث أتاه جبريل فقـال له : إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف ، فقال صلى الله عليه وسلم : أسأل الله معافاته ومعونته . إن أمتي لا تطيق ذلك ، ولم يزل يردد المسألة حتى بلغت سبعة أحرف ، وبعد أن استشهد ابن الجزري ببعض الأحاديث الصحيحة استمر في بيان الحكمة قائلاً : "إن الأنبياء عليهم السلام كانوا يبعثون إلى قومهم الخاصين بهم ، والنبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى جميع الخلق : أحمرها وأسودها ، عربيّها وعجميّها . وكانت العرب الذين نزل القرآن بلغتِهم لغاتُهم مختلفة ، وألسنتهم شتى ، ويعسر على أحدهم الانتقال من لغته إلى غيرها ، أو من حرف إلى آخر . بل قد يكون بعضهم لا يقدر على ذلك ، ولا بالتعليم والعلاج ، ولا سيما الشيخ والمرأة ، ومن لم يقرأ كتابًا ، فلو كلفوا العدول عن لغتهم والانتقال عن ألسنتهم لكان من التكليف بما لا يستطاع" .
وزاد ابن قتيبة (تأويل مشكل القرآن ص30) . الأمر تفصيلاً ، فقال : " فكان من تيسيره أن أمره الله أن يقرئ كل قوم بلغتهم00 فالهذلي يقرأ : عتى حين00 والأسدي يقرأ : تِعْلَمون00 والتميمي يهمز ، والقرشي لا يهمز ، والآخر يقرأ : وإذا قيل لهم ، وغيض الماء بإشمام الضم00 ولو أن كل فريق من هؤلاء أُمر أن يزول عن لغته وما جرى عليه اعتياده طفلاً وناشئًا وكهلاً لاشتد ذلك عليه ، وعظمت المحنة فيه" .
وحديث نزول القرآن على سبعة أحرف من الأحاديث التي قبلها العلماء واشتهرت بينهم ، وتناقلها الثقات جيلا عن جيل (انظر : تفسير الطبري 1 / 25 ، والنشر1 / 12 ، ولطائف الإشارات 1 / 31 وغيرها) . وقد روي أن عثمان بن عفان حينما صعد المنبر وسأل من سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : مسلم صلاة المسافرين وقصرها (820) ، النسائي الافتتاح (940) ، أبو داود الصلاة (1477) ، أحمد (5/127). أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شافٍ كافٍ أن يقوم- قام الكثيرون حتى لم يحصوا ، فعقب عثمان قائلاً : وأنا أشهد معهم انظر النشر 1 / 21 ، والإتقان 1 / 45 . .
وإذا كان العلماء قد اختلفوا في تحديد المراد بالأحرف ، والمـراد بالسبعة ، وهل هي على سبيل الحصر ، أو للتعبير عن الكثرة ، فإنهم لم يختلفوا في أن الأحرف السبعة ليست هي القراءات السبع التي اختارها ابن مجاهد . يقول ابن الجزري : "لا يجوز أن يكون المراد من الأحرف السبعة هؤلاء السبعة القراء المشهورين- وإن كان يظنه بعضهم- لأن هؤلاء السبعة لم يكونوا قد خلقوا ولا وجدوا" (النشر1 / 24) . . وقد وجه كثير من العلماء اللوم لابن مجاهد لاقتصاره من بين القراء على سبعة ، وإيقاعه الناس في الوهم والتلبيس ، ولذا يقول السيوطي : "مسبِّع السبعة فعل ما لا ينبغي ، وجعل الأمر مشكلا على العامة باختياره ، فظن كل من قل نظره أن هذه القراءات هي المذكورة في الحديث . وليته إذ اختار نقص عن السبعة أو زاد عليها ليزيل الشبهة" (الإتقان 1 / 80) . .
وإذا كان المشتغلون بالقراءات ، المدونون لها قد وقفوا موقفًا متحفظًا من بعض القراءات ، فما ذاك إلا لأنهم لاحظوا وقوع بعض القراء في التخليط ، وبعض آخر في التفريط ، فنخلوا هذه القراءات وميزوا بينها من ناحيتي الإسناد ، والمتن . وتحدََّدت هذه المعايير على يد ابن الجزري (توفي 833هـ) في شروط ثلاثة هي :
1 - موافقة العربية ولو بوجه .
2 - موافقة أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالاً .
3 - صحة سند القراءة (1 / 10-12) . .
وإذا كان كثير من الأصوليين والفقهاء قد تبعوا ابن مجاهد في اختياره ، أو زادوا على السبعة ثلاثة ، فهناك كثيرون آخرون رفضوا المفاضلة بين القراءات على أساس تصنيف أصحابها إلى سبعة أو عشرة أو غير ذلك ، وفاضلوا بينها على أساس المعايير الثلاثة السابقة ، ولذا يقول القسطلاني : " فإذا اجتمعت هذه الثلاثة في قراءة وجب قبولها ، وحرم ردها سواء كانت عن السبعة ، أم عن العشرة ، أم عن غيرهم من الأئمة المقبولين" (اللطائف 1 / 68 ، 69) . . ويقول ابن الجزري : "وقد ذكر الناس من الأئمة في كتبهم أكثر من سبعين ممن هو أعلى مرتبة وأجل قدرًا من هؤلاء السبعة" (النشر 1 / 37) . .
وإذا كان هذا هو رأي المحققين من الفقهاء والقراء والأصوليين الذين نظروا إلى القراءة باعتبارها وسيلة تعبُّد ، وطريق تقرُّب ، وشرطًا لصحة الصلاة ، ومصدرًا للتشريع والتحريم والتحليل - فهناك إلى جانبهم فريق اللغويين الذين نظروا إلى القراءة نظرة مغايرة ؛ لأن هدفهم مختلف ، وغايتهم من قبول القراءة ليست العبادة أو الصلاة بها ، إنما هي مجرد إثبات حكم لغوي أو بلاغي . ولذا فقد وضعوا شرطًا واحدًا لصحة الاستدلال اللغوي بالقراءة ، وهو صحة نقلها عن القارئ الثقة حتى ولو كان فردا ، سواء رويت القراءة بطريق التواتر ، أو الآحاد ، وسواء كانت سبعية ، أو عشرية ، أو أكثر من ذلك . بل إن ابن جني في مقدمة كتابه المحتسب كان حريصًا على وضع القراءة الشاذة على قدم المساواة مع القراءة السبعية ، وذلك بقوله : إنه "نازع بالثقة إلى قرائه ، محفوف بالرواية من أمامه وورائه ، ولعله أو كثيرًا منه مساوٍ في الفصاحـة للمجتمع عليه" (1 / 32) . ويقول في مكان آخر : إنه لا يصح العدول عن المسمى شاذا ؛ لأن الرواية تنميه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (السابق 1 / 32 ، 33) . . والقراءة- من زاوية الاستشهاد اللغوي البحت- نص عربيّ ، رواه أو قرأ به من يوثق في عربيته ، ولهذا فهي- حتى على فرض اختلاف العلماء في صحة التعبد والصلاة بها- تحقق شرط اللغوي ، وهو النقل عن العربي الثقة ، حتى ولو كان فردًا ، بل إن السيوطي يصرح بما هو أكثر من ذلك حين ينفي اشتراط العدالة في العربي الذي يستشهد بكلامه .
ومن هذا يتضح أن جمعنا القراءات القرآنية من مصادرها المتعددة ، وتقديم ألفاظها في معجم هجائي لم نقصد به الترويج لها ليقرأ المسلمون بها في الصلاة ، أو يتعبدوا بها ، كما لم نقصد به أن تنافس النص المصحفي المتداول بأشكاله المحددة في شتى أنحاء العالم العربي والإسلامي .
ولما كانت غايتنا من إثبات القراءات هنا غاية معجمية لا تتجاوز إثبات وجود اللفظ في اللغة ، أو ضبط نطقه ، أو ذكر معناه ، أو غير ذلك من النتائج الجزئية التي لا تعمم حكمًا ، ولا تبني قاعدة ، فلا يفسد هذه الغاية أن تكون القراءة هي النموذج الوحيد المنقول إلينا ؛ إذ لم يشترط أحد من اللغويين لحجية النص في مثل هذه الحالة كثرة أو قلة .
وإذا كان جمع عثمان المسلمين على مصحف إمام قد أزال الفرقة بينهم ، ووحد كلمتهم ، وألزمهم بالصلاة والتعبد بنصوصه- فإنّ ذلك لم يلغ ما سجله المسلمون من قراءات على اعتبار أنها - في أضعف حالاتها- تعد نصوصًا لغوية موثقة ، وكلامًا عربيًا فصيحًا . وما خالـف رسم المصحف من هذه القراءات لا يخرج- حتى في أدنى درجاته- عن أن يكون من باب التفسير ، أو الشرح اللغوي الذي كان يسجله بعض الصحابة القراء أو بعض المتلقين عنهم . فلماذا نحرم المسلمين من هذا النوع الموثق من التفسير؟ ، وإذا كان جمهور العلماء يحظر التعبد بالقراءات التي لم تتوفر فيها الشروط الثلاثة السابق ذكرها ، فهناك غايات أخرى كثيرة تروى من أجلها كل القراءات ، وتفهرس ، وتشرح من مثل ما يأتي :
1 - أن القراءات القرآنية ، وطرق التلاوة للنص القرآني تعد المثال الحي الوحيد لطرق نطق الفصحى قـديمًا وحديثًا . وكثيرا ما يحتاج اللغوي عند وصف صوت من الأصوات ، أو ظاهرة صوتية معينة إلى الاستهداء بنطق المجيدين من قُرّاء القرآن . أما باقي المصادر اللغوية فقد وردتنا مكتوبة لا منطوقة ، وكثيرًا ما أوقعت طريقة الكتابة العربية في التصحيف والتحريف .
2 - اشتمال القراءات القرآنية على شواهد لغوية سكتت المعاجم عن ذكرها . وربما كان أظهر مثال لذلك قوله تعالى : وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ (الأنعام : 91) ، من الفعل الثلاثي المخفف . ولكن يشيع في لغـة العصر الحديث استخدام كلمة : "التقدير" من الفعل المضعف" قدَّر" ، بمعنى عظَّم أو احترم . ونفتش في المعاجم القديمة عن هذا الاستعمال فلا نجد ، وتسعفنا القراءات القرآنية فتمدنا بالشاهد ، وهو قراءة الحسن وعيسى الثقفي : "وما قدَّروا الله00" ، قال في الكشاف : وقرئ بالتشديد على معنى : وما عظّموه كنه تعظيمه .
3 -أنه يمكن اتخاذ القراءات القرآنيـة مرتكزًا لتحقيق التيسير ، ودليلاً لتصحيح كثير من العبارات والاستعمالات الشائعة الآن ، والتي يتحرج المتشددون من استعمالها . ومن أمثلة ذلك :
أ- ضبط الفعل "تَوَفَّى" بالبناء للمعلوم . ورغم أن الاستعمال الفصيح هو بناؤه للمجهول فقد جاءت القراءة القرآنية مصححة للنطق الحديث . وذلك في قوله تعالى : وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ (الحج : 5) ، فقد قرأها الأعمش وغيره : "وَمِنْكُمْ مَنْ يَتَوَفَّى" ، قال النحاس في "إعرابه القرآن" (2 / 390) . وأبو حيان في "البحر المحيط" (6 / 353) . أي يستوفي أجله .
ب- تخفيف كلمات مثل "أمسية" ، و"أضحية" ، و"أمنية" . وقـد ورد التخفيف في بعض القراءات ، مثـل : تلك أمانِيهم (البقرة : 111) ، لَيْسَ بِأَمَانِيكُمْ وَلا أَمَانِي أَهْلِ الْكِتَابِ (النساء : 123) ، إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَتِه (الحج : 52) .
ج- ويمثل باب العدد مشكلة كبيرة للمتعلم العربي ، فتارة يخالف (تذكيرًا وتأنيثًا) ، وتارة يوافق ، وغير ذلك . وتزداد المشكلة بالنسبة للعدد من ثلاثة إلى عشرة ؛ لأن تمييزه جمع ، ولا بد من رد الجمع إلى مفرده للحكم بالتذكير أو التأنيث . ويحل المشكلة أن يُنصح المتكلم بأن يقدم المعدود ويؤخر العدد ، وحينئذٍ تجوز له المطابقة لأنه نعت ، والمخالفة لأنه عدد . وقد جاء بالوجهين قوله تعالى : وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (الواقعة : 7) ؛ حيث قرئ كذلك "وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثلاثًا" (مختصر ابن خالويه / 15) . .
د- يشيع في العصر الحديث استعمال "كِلا" مع المثنى المؤنث المجازي التأنيث ، مثل : "كلا الدولتين" ، و"كلا الصحيفتين"00 وقد جاءت القراءة القرآنية لتصحح هذا الاستعمال ، وذلك في قوله تعالى : كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا فقد قرأها ابن مسعود : "كِلا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا" ، قال في البحر (6 / 124) . "أتى بصيغة التذكير لأن تأنيث الجنتين مجازي" .
هـ- تذكر كتب النحو أن من مواضع كسرة همزة "إنّ" وقوعها مفعولا للقول ولكن كثيرًا من المتحدثين يفتحونها الآن . وقد جاء الفتح في بعض القراءات ، مثـل قراءة المطوعي : وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ (هود : 7) . قال في البحر (5 / 205) . "لأن قلت في معنى : ذكرت" . ويجوز أن يكون على تقدير حرف الجر . وحذف حرف الجر قياسي مع "أن" .
4 - من الممكن ضم القراءات القرآنية المتواترة والشاذَّة ، وإعادة الدراسة لبعض الأبواب الصرفية المضطربة ، مثل : أبواب الفعل الثلاثي المجرد . فمن المعروف أن أبواب هذا الفعل تتوزع بين الكسر والفتح والضم في كل من الماضي والمضارع دون ضابط صارم . وأكثر الأبواب شيوعًا في اللغة العربية ما كان بفتح العين في الماضي وضمها أو كسرها في المضارع (طبقًا لقاعدة المخالفة) . ولكن المتحدث يقف حائرًا- إن لم يرجع إلى المعجم- في كثير من الأحيان ، هل يخالف إلى الكسر؟ أو الضم؟ .
ومن أمثلة القراءات القرآنية ما يسمح بفتح باب الاختيار في حركة المخالفة ، فنكسر أو نضم حسب ما شاع على ألسنة المثقفين ، وقبله العرف اللغوي الحديث . وقد وردت الأفعال الآتية -وغيرها كثير- بالكسر والضم :
* ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (طه : 97) . * فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (المؤمنون : 66) . * وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ (الفرقان : 17) . * وَيَومَ نَحْشُرُ أَعْدَاءَ اللهِ إِلَى النَّار (فصلت : 19) . * لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (الفرقان : 67) . * فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا (القصص : 19) . * عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ (سبأ : 3) .
5 - بعض القـراءات غير المشهورة لا تقل قبولا- من ناحية المعنى- عن المشهورة ومن أمثلة ذلك :
أ - قراءة الزهري : وأوفوا بعهدي أُوَفِّ بعهدكم (البقرة : 40) ، وقد عقب ابن جني على هذه القراءة بقوله : "ينبغي أن يكون قرأ بذلك ؛ لأن فعَّلت أبلغ من أفعلت فيكون على : أوفوا بعهدي أبالغ في توفيتكم ؛ كأنه ضمان من الله سبحانه أن يعطي الكثير في مقابل القليل" (المحتسب 1 / 81)
ب- قراءة ابن مسعود : كلما ردوا إلى الفتنة رُكِّسوا فيها (النساء : 91) . قال ابن جني : "وجه ذلك أنه شيء بعد شيء ، وذلك لأنهم جماعة . فلما كانوا كذلك وقع منه شيء بعد شيء فطال ، فلاقى به لفظ التكثير والتكرير ، كقوله تعالى : وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ (المحتسب1 / 194) . .
ج- قراءة : لا يكادون يُفْقِهون قولا (الكهف : 93) ، والمشهور "يَفْقَهون" . قال الطبري : والصواب عندي من القول في ذلك أنهما قراءتـان مستفيضتان ، في قراءة الأمصار غير دافعة إحداهما الأخرى . وذلك أن القوم الذين أخبر الله عنهم هذا الخبر جائز أن يكونوا لا يكادون يَفْقهون قول غيرهم ، وجائز أن يكونوا مع كونهم كذلك لا يكادون يُفْقهون غيرهم لعلة بلسانهم أو بمنطقهم" (16 / 14) . .
6 - من العلماء من أقام تعدد القراءات مقام تعدد الآيات ، وتعدد المعاني وعدَّ ذلك ضربًا من ضروب البلاغة ، يبتدئ من جمال هذا الإيجاز ، وينتهي إلى كمال الإعجاز . (مناهل العرفان 1 / 142) . .
ولا تقف أهمية القراءات عند قيمتها اللغوية ، بل تضيف إلى ذلك قيمتها الدينية الكبيرة ، وعلى سبيل المثال :
1 - بعض القراءات يعد من باب التفسير اللغوي لبعض الألفاظ ، مما يكون له الأفضلية على غيره من التفسيرات ، أو يلقي ضوءًا على المعنى المراد من اللفظ ، ومن ذلك :
أ- إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا (يوسف : 36) ، قرأها ابن مسعود وأبيّ : "أعصر عنبًا" . ب- تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ (مريم : 90) ، قرأها ابن مسعود : "يتصدّعن منه" . ج- إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ (الأنبياء : 98) ، قرأها أُبيّ وعلي وعائشة وغيرهم ، "حطب جهنم" . د- حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا (النور : 27) ، قرأها أبيّ وابن عباس وابن مسعود وغيرهم : "حتى تستأذنوا" .
هـ- كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (القارعة : 5) ، قرأها ابن مسعود : "كالصوف المنفوش" . - بعض القراءات قد يبنى عليه حكم فقهي ، أو يؤدي إلى استنباط هذا الحكم . ومن ذلك :
أ- قوله تعالى في سورة المائدة : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا (المائدة : 38) . وقد جاءت قراءة ابن مسعود لتحديد اليد التي يبدأ بقطعها ، وهي : "فاقطعوا أيمانهما" .
ب- قوله تعالى في نفس السورة : فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ (المائدة : 89) ، وقد قرأ ابن مسعود ، وأبيّ وغيرهما : "فصيام ثلاثة أيام متتابعات" ، فدلت القراءة على شرط التتابع .
ج- قوله تعالى : يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ (المائدة : 6) . فقراءة حفص بنصب "أرجلكم" ، عطفًا على الوجوه والأيدي . وبذلك تكون الأرجل داخلة في الأعضاء المغسولة . أما قراءة ابن كثير وأبي عمرو وحمزة وغيرهم ، فإنها بكسر"أرجلكم" ، بالعطف على "الرءوس" ، فتكون الأرجل داخلة في المسح مع الرأس . وقد قال الفقهاء إن القرآن نزل بالمسح على الرأس والرجل أوَّلا ، ثم عادت السُّنَّة إلى الغسل . ومنهم من قال إن المسح- في قراءة الجر- للخُفّ ، والغسل- في قراءة النصب- لغيره .
د- وجاءت قراءة : "وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطَّهَّرنَ" مع حَتَّى يَطْهُرْنَ (البقرة : 222) لتفيد الجمع بين الحكمين المختلفين . فالحائض لا يقربها زوجها حتى تطهُر بانقضاء الحيض ، وتَطَّهَّر بالاغتسال ، فلا بد من الطهرين كليهما في جواز قربان النساء . وهو مذهب الشافعي ومن وافقه .
3 - كثير من القراءات يكمل بعضها بعضًا ، أو يفسر بعضها بعضًا . فكما أن القرآن يفسر بعضه بعضًا ، فكذلك القراءات يفسر بعضها بعضًا ، ويفسر بعضها بعض القرآن . ونضرب لذلك الأمثلة القليلة الآتية :
أ- يقول تعالى متحدثًا عن فئة من اليهود : وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ (النساء : 46) . فكانوا يسكتون على "راعنا" لتوهم أنهم يريدون "الرعاية" مع أن قصدهم "الرعونة" . ولذا جاءت قراءة الحسن وابن محيصن كاشفة نية اليهود حينما نونت كلمة "راعنًا" ، وهذا واضح من قول بقية الآية : لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ
ب- قال تعالى : وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ (آل عمران : 161) ، وهناك قراءة سبعية "وما كان لنبيّ أن يُغَلّ"- بالبناء للمجهول . فمعنى الأولى : أن يَخُون أصحابه بأخذ شيء من الغنائم خفية . ومعنى الثانية : أن يُخَوَّن - بالبناء للمجهول . وقـد جاء في الأثر أن أحد المنافقين قـال يوم بدر حين فقدت قطيفة حمراء من الغنيمة : خاننا محمد وغلّنا ، فأكذبه الله عز وجل . ولا شك أن القراءتين يكمل بعضهما بعضًا .
ج- قال تعالى : فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا (يوسف : 81) ، وحيث لم يكن الأخ سارقًا في الحقيقة ، وإنما كان متهمًا بالسرقة ، جاءت القراءة التالية لتدل على هذا المعنى ، وهي : "قالوا يا أبانا إن ابنك سُرِّقَ" بالبناء للمجهول .
ومع اقتناعنا بأن القراءات جميعها تتساوى في ضرورة الاهتمام بها ، والتوفر على دراستها ، فإننا لـم نشأ أن نحرم مستخدم المعجم من التمييز بين درجات القراءات ، فذكرنا أمام كل قراءة درجة المصدر الذي وردت فيه . وسوف نزيد هذه النقطة تفصيلا حين الحديث عن منهجنا في ذلك .
ولا يعني وصف المراجع بعض القراءات بأنها شاذة ، وفصلها في معجمنا عن القراءات السبع ، والثلاث التي فوق السبع ، والأربع التي فوق العشر-لا يعني هذا التقليل من قيمتها أو وضعها في درجة أقل بالنسبة لغيرها من القراءات ، وإنما هو اتباع لتصنيف القدماء ، واستخدام لمصطلحاتهم ، وإن كان لفظ "الشاذ" قد ترك ظلالاً خاطئة ، وأوقع بعض العلماء في وهم كنا في غنًى عنه ، مما اضطر عالما متقدما ، هو ابن الجزري إلى إزالة هذا الوهم بقوله : إن إطلاق بعضهم على ما لم يكن من القراءات السبع شاذًا إطلاق غير موفق ، فإن كثيرا مما روي عن غير السبعة أصح من كثير مما روي عنهم .